قصة “ما بين حدود القلب”
كان سالم العجمي شابًا كويتيًا هادئ الطباع، جاء إلى الجامعة في دولة عربية مجاورة ليكمل دراسته في كلية الهندسة. كان يحمل معه دفاتر مليئة بالمعادلات… وقلبًا لم يختبر الحب من قبل.
في اليوم الأول من الفصل الدراسي، دخلت القاعة فتاة بشعر أسود طويل وابتسامة خجولة. جلست في المقعد المجاور له وهي ترتّب كتبها بعناية.
سمعها تُعرّف بنفسها أمام الأستاذ: “اسمي ليلى نزار… من العراق.”
لم يعرف سالم لماذا توقفت الدقيقة عند تلك اللحظة.
وكأنه سمع الاسم ينساب إلى صدره قبل أن يصل إلى أذنيه.
البداية
مرت الأيام، وكانا يلتقيان يوميًا في القاعة. ليلى متفوقة، ودائمًا ما تسبق الجميع في الإجابة. أما سالم فكان يجد نفسه يراقب شغفها أكثر مما يركز على الشرح.
في أحد الأيام، تأخرت ليلى عن المحاضرة، ولم يجد الأستاذ من يشاركه مشروع البحث إلا سالم. وعندما عادت، اعتذرت عن التأخير، فابتسم سالم لأول مرة بطريقة لم يعهدها هو نفسه.
قال لها بخجل:
– “إذا تبين، نكمل البحث مع بعض… أنا ما عندي مشكلة.”
أجابت بابتسامة رقيقة:
– “بالعكس، يشرفني.”
ومن تلك اللحظة بدأ كل شيء.
قلبان من بلدين
كان كل منهما يحمل وطنًا في قلبه، لكنّ قلبيهما كانا يلتقيان في منتصف الطريق.
كانت ليلى تحكي له عن البصرة… عن النخيل… عن دجلة…
وكان سالم يحكي لها عن البحر… عن السور… عن ليالي الكويت الهادئة.
ومع كل حديث، كان الخيط الذي بينهما يشتدّ، ينمو، ويتحوّل إلى شيء لا يمكن تجاهله.
لكن الحب ليس دائمًا سهلًا، خصوصًا عندما يتعلق الأمر ببلدين بينهما تاريخ طويل من الجراح.
كانت ليلى تخشى نظرة عائلتها.
وسالم كان يتساءل: “هل يمكن أن تتجاوز القلوب ما لا تتجاوزه السياسة؟”
العاصفة
ذات ليلة، بعد أشهر من الخروج والدراسة والعمل على المشروع، دخل سالم إلى الحرم الجامعي فوجد ليلى متوترة.
سألها بقلق:
– “ليلى، شفيج؟”
قالت بصوت مرتجف:
– “وصلتني رسالة من أهلي… عرفوا إن في أحد كويتي يكلمني.”
ساد الصمت.
كان سالم يشعر بأن نبضات قلبه تسقط واحدة تلو الأخرى.
وأضافت ليلى وهي تدمع:
– “مو لأنك سيّئ… بس يخافون. يخافون من الماضي.”
اقترب منها سالم وقال:
– “إذا تبين أبتعد… أنا حاضر. بس قولي لي رايج انتي، مو راي أحد.”
رفعت رأسها، وبكل صدق قالت:
– “أنا أحبك… بس أخاف أخسرك وأخسرهم.”
قرار الحب
مرت أيام ثقيلة، كل واحد منهما يعيش صراعًا بين العقل والقلب.
وفي يوم إعلان نتائج مشروع التخرج، فاز مشروعهما بالمركز الأول. صعدا معًا على المسرح، والقاعة كلها تصفق.
لكن ليلى كانت تفكر في شيء آخر:
القدر جمعهما مرة… فهل يتركهما الآن؟
بعد الحفل، وقفت أمام سالم وقالت:
– “قررت… ما أريد أعيش على خوف. أبي أواجه.”
انبسط وجه سالم لأول مرة منذ أسابيع.
– “يعني…؟”
– “يعني نروح لأهلي… سوا.”
ما بعد الحدود
كانت الزيارة أصعب لحظات حياتهما.
جلس سالم أمام والد ليلى، رجل صامت، عيونه تحمل سنوات من الألم والتجارب.
قال سالم بثبات:
– “أنا أحب بنتك… وأبيها بالحلال. مو جاي أقلل من أي أحد… جاي بقلبي قبل كلامي.”
طال الصمت طويلاً… حتى قال والدها بنبرة منخفضة:
– “القلوب ما تعرف حدود… إذا هي راضية، أنا ما أوقف بطريقها.”
انفجرت دموع ليلى، وسالم خفض رأسه احترامًا.
النهاية
بعد عام، تزوجا في حفل بسيط جمع عائلتين كانتا تظنان أن الماضي سيبقيهما متباعدتين.
لكن الحب أثبت أنه قادر على أن يعبر بين الدول، ويصلح ما عجزت عنه السياسة.
وسالم… ذلك الشاب الهادئ، لم يكن يعلم يوم دخل الجامعة أنه سيجد حبًا لا يشبه أي شيء عرفه.
وليلى… لم تتوقع أن يتحول زميل الدراسة إلى قدرها.
وهكذا…
بين كويتي وعراقية، لم تكن الحدود سوى خطوط على الخريطة.
أما القلب… فظل واسعًا بما يكفي لاحتضان وطنين.
مرت سنتان على زواج سالم وليلى، سنوات لم تكن خالية من التحديات، لكنها كانت مليئة بما يكفي من الحب ليجعلهما قادرين على تخطي أي شيء. استقرّا في شقة صغيرة قرب الجامعة التي تخرّجا منها، وبدأ كل منهما أولى خطواته في الحياة العملية.
البداية الجديدة
سالم حصل على وظيفة في شركة هندسية كبرى، بينما بدأت ليلى العمل كمساعدة بحث في مختبر الجامعة. كانت تحب العلم كما تحب وطنها، وتحب سالم كما تحب الهواء الذي تتنفسه.
في المساء، كانا يجلسان على شرفة شقتهما الصغيرة. هو يحتسي قهوته، وهي تمسك كتابًا بيدها وتراقبه من حين لآخر.
قالت له مازحة:
– “تدري؟ كنت أحسب إن بعد الزواج ينتهي الرومانسية… بس معاك اكتشفت إنها توها تبدأ.”
ضحك سالم وقال:
– “الظاهر إنج ما شفتي شي للحين.”
زيارة غير متوقعة
في أحد الأيام، بينما كانت ليلى في المختبر، تلقت اتصالًا من رقم عراقي. كان قلبها يعرف الصوت قبل أن تسمعه:
“يمّة… شلونج؟”
إنها أمها.
صمتت ليلى لثوانٍ، فقد توقعت أن تكون المكالمة عتابًا أو لومًا، لكنها تفاجأت بالأم تقول:
– “اشتقنالج… ونبغي نشوفج إنتي وزوجج.”
اختنقت ليلى بالدموع، وذهبت إلى سالم وهي تبكي من الفرح.
كان هذا أول اعتراف رسمي من عائلتها بأن خِيارها لم يكن خطأ.
قال سالم بعد أن سمع الخبر:
– “إذا تبين… نسافر لهم الأسبوع الياي.”
هزت رأسها وهي تمسح دموعها:
– “أبي أهلي يشوفونك مثل ما أنا أشوفك.”
رحلة العودة إلى الجذور
كانت هذه المرة الأولى التي يزور فيها سالم العراق مع زوجته. عندما دخلت السيارة إلى البصرة، كانت ليلى تشير له على كل شارع وكل زاوية:
– “هني كنت ألعب وأنا صغيرة.”
– “هذي المدرسة اللي كنت أروح لها.”
– “وذاك نهر شط العرب… أحلى مكان بالدنيا.”
كان سالم يستمع بانبهار، وكأنها تحكي له قصة أخرى عن نفسها، قصة لم يكن يعرفها.
عندما وصلا إلى منزل عائلتها، خرج الجميع لاستقبالها. أم ليلى عانقتها طويلاً، ثم التفتت إلى سالم وقالت له بابتسامة خجولة:
– “نورت العراق يا يمّه.”
رد سالم باحترام:
– “العراق منور بأهله.”
بين عائلتين
قضيا أسبوعًا كاملًا هناك.
سالم تعلم كلمات عراقية لأول مرة، وكلما أخطأ في لفظ كلمة، كان الجميع يضحك، وليلى تضحك أكثر منهم.
أما والدها، الذي كان صامتًا دائمًا، فقد جلس مع سالم مساءً على سطح المنزل يحتسيان الشاي.
قال والدها بدون مقدمات:
– “كنت خايف… مو منك… من الدنيا.”
رد سالم بهدوء:
– “وأنا فاهم كل خوف، بس بوعدك… ليلى أغلى شي عندي.”
ابتسم الرجل ابتسامة صغيرة، لكنها كانت كافية لتُشعر سالم أنه أصبح واحدًا من العائلة.
عودة محمّلة بالحب
عندما عاد الزوجان إلى بلدهما الثاني، كانت ليلى أكثر طمأنينة، وسالم أكثر امتنانًا.
لقد شعر أن قلبه لم يعد ينتمي لبلد واحد فقط… بل لبلدين، لثقافتين، لعائلتين.
وفي إحدى الليالي، أخبرته ليلى وهي تضع يده على قلبها:
– “سالم… عندي خبر يمكن يغير كل حياتنا.”
نظر إليها باستغراب.
ابتسمت بدموع الفرح وقالت:
– “أنا حامل.”
تجمد سالم لثانية، ثم احتضنها بقوة وكأنه يحتضن المستقبل كله.
مرت شهور الحمل الأولى بهدوء نسبي، وكانت ليلى تزداد تعلقًا بسالم كل يوم، وهو يرافقها في كل زيارة للطبيب، ويحاول أن يخفف عنها أي ألم أو إرهاق.
كان حلم أن يصبح أبًا يكبر داخله مثل الشمس التي تشرق دون أن يطلبها أحد.
لكن…
لم تكن الحياة تنوي تركهما يعبران هذه المرحلة بسهولة.
بداية الأزمة
في الشهر السابع من الحمل، بدأت ليلى تشعر بتعب غير مألوف.
دوار… نبض سريع… وضيق في التنفس.
ظنّا في البداية أنه إرهاق طبيعي، لكن عندما فقدت ليلى وعيها ذات ليلة، حملها سالم بين ذراعيه وركض بها إلى المستشفى دون أن يشعر بجسده.
بعد ساعات طويلة من الفحوصات، خرج الطبيب بوجه متجهم.
قال بهدوء مؤلم:
– “زوجتك تمر بحالة خطرة… عندها تسمّم حمل حاد. لازم تبقى بالمستشفى.”
تجمّد سالم.
كان يسمع الكلمات لكنه لا يستطيع فهمها…
كأن الزمن توقف.
صراع بين الحياة والموت
أيام طويلة مرت وسالم يعيش في ممرات المستشفى، لا يترك باب غرفتها إلا للصلاة والدعاء.
كان ممزقًا بين خوفه على ليلى وخوفه على الجنين.
ذات يوم دخل الطبيب وهو ينظر إلى نتائج التحاليل، ثم قال شيئًا قصم ظهر سالم:
– “إذا ما تدخلنا بسرعة… احتمال نخسر الأم أو الجنين.”
وقف سالم، ودموعه تكاد تسقط:
– “دكتور… أنقذوهم. أرجوك… أنقذوهم.”
لكن الطبيب نظر إليه بعينين جديتين:
– “لازم نقرر الآن… ننقذ من أول؟”
شعر سالم وكأن الأرض انشقت تحته.
هل يختار؟
كيف يختار؟
ليلى حياته… والطفل حلمه.
تمسك سالم بمقعد كان بجواره وقال بصوت مكسور:
– “أنا ما أختار… أنقذوهم اثنينهم. الباقي على الله.”
الدقائق التي تشبه العمر
دخلت ليلى غرفة العمليات، وسالم يقف خارج الباب يردد:
“يا رب… لا تحرمني منهم.”
مرّت الدقائق كسنوات.
كل صوت من الداخل كان يخترق قلبه، وكل خطوة تمر في الممر كانت توقظ خوفه.
حتى خرج الطبيب أخيرًا…
وسالم لم يعد قادرًا حتى على الكلام.
اقترب الطبيب وربت على كتفه:
– “الحمد لله… زوجتك بخير. والطفل… ولد جميل قوي.”
انهار سالم باكيًا، ليس ضعفًا… بل شكرًا.
ولادة وطن جديد
دخل غرفة العناية، فوجد ليلى شاحبة لكنها مبتسمة.
رفعت عينيها إليه وقالت بهدوء:
– “سالم… ولدنا بخير؟”
أمسك يدها ووضع جبينه عليها.
– “بخير… اثنينكم بخير. ما تعرفين شسويتِ فيني.”
ضحكت بدمعة وقالت:
– “وش بنسميه؟”
همس سالم:
– “نسميه وصل. لأنه الوصلة اللي بتجمع بين وطنين… مثل ما جمعنا الحب.”
ابتسمت ليلى:
– “وصل العجمي… اسم يشبه حكايتنا.”
بعد العاصفة
مرت الأيام، وتعافت ليلى ببطء.
كان سالم يعتني بها كما لم يعتنِ بأحد في حياته، ويهدهد الطفل في الليل وهو يردد:
– “يا وصل… أنت اللي بتنسف كل المسافات.”
عندما زارتهم عائلة ليلى، حمل الجد حفيده وقال:
– “هذا مو بس حفيد… هذا بداية سلام بين قلبين.”
وكذلك شعر سالم.
لم يعد يرى العراق والكويت كبلدين، بل كعائلتين امتدت جذورهما في قلب صغير اسمه “وصل”.
مرت سبع سنوات منذ ولادة وَصل، ذلك الطفل الذي صار رمزًا لحبٍ عبر حدود، وكبر بين قصتين، له ضحكة تشبه ليلى، وهدوء يشبه سالم، وقلب يحمل وطنين في داخله.
كانت الحياة تبدو مستقرة.
سالم يعمل في شركة هندسية كبيرة، وترقّى حتى أصبح مدير مشروع.
ليلى أكملت دراستها ونالت الماجستير، وأصبحت محاضِرة في الجامعة.
أما وصل… فكان يتنقل بين اللغتين بطلاقة، يتحدث مع أبيه باللهجة الكويتية، ومع أمه باللهجة العراقية، ويضحك عندما يمزج بينهما ويقول:
– “أنا نص بصراوي ونص كويتي… يعني دَبّل قوة!”
لكن خلف هذا الهدوء، كانت حياة جديدة تتهيأ… حياة فيها اختبار من نوع آخر.
بداية الريح
بدأت الأزمة عندما عرضت على سالم فرصة وظيفية كبيرة في الكويت.
الراتب ممتاز، المنصب مرموق، والمستقبل مضمون…
لكن ليلى كانت قد بدأت مشروع رسالتها للدكتوراه ولا تستطيع ترك الجامعة بسهولة.
في تلك الليلة، جلسا في غرفة المعيشة، وصوت التلفاز منخفض، بينما يدور بينهما حوار صعب.
قالت ليلى وهي تحاول أن تخفي ارتباكها:
– “سالم… هذي فرصتك… مو أي فرصة.”
لكن سالم هز رأسه:
– “أنا ما أبي أروح بدونكم.”
اقتربت منه، وضعت يدها على يده وقالت:
– “إحنا فريق… بس مرات الفريق يحتاج يبتعد شوي عشان يفوز.”
سكت سالم…
كان يعلم أن كلامها صحيح، لكنه كان يخشى أن يضع بينهما مسافة…
فالمسافات قد تُخفي ما لا يمكن جمعه بسهولة.
قرار الرحيل
بعد نقاش طويل، اتفقا على حل:
سالم يسافر للكويت لمدة مؤقتة، ثلاثة أشهر فقط، حتى ينهي أوراق المشروع الجديد، ثم يعود.
ولم يكن الفراق سهلاً.
في المطار، كانت ليلى تحاول أن تكون قوية، بينما وصل يتمسك بيد أبيه ويقول:
– “بابا… ما تطوّل؟”
انحنى سالم إلى مستوى الطفل وقال:
– “أبدًا يا بطل… بس فترة قصيرة وأرجع لكم.”
لكن قلب سالم كان يخبره أن شيئًا ما سيتغير… وأن هذه الأشهر لن تمر بسهولة.
ليالٍ بلا نوم
مرت الأيام الأولى ثقيلة على ليلى.
كانت تعمل في النهار، وتدرس في الليل، وتعتني بوصل بينهما.
وتحاول أن تخفي تعبها عن سالم حتى لا تشغله.
أما سالم، فكان يعمل لساعات طويلة، وفي الليل يتمسك بهاتفه لينتظر مكالمتها.
كان يفتقد صوتها… ضحكتها… حتى صمتها.
وذات ليلة، لاحظ سالم أن ليلى تتكلم بصوت متعب.
قال لها بقلق:
– “ليلى… انتي بخير؟”
– “بخير… بس شوية ضغط.”
لكن ما لم تخبره به… أنها بدأت تشعر بألم في صدرها ودوار متكرر.
كانت تخشى أن تقلقه، وتخشى أن تتكرر مأساة ما قبل سبع سنوات.
الانهيار
وفي ليلة ممطرة، بينما كانت ليلى ترتّب أبحاثها، سقطت فجأة على الأرض.
حاولت أن تتنفس لكن الهواء كان يهرب منها، وارتجفت أطرافها.
وصل هرع نحوها وهو يبكي:
– “ماما! ماما قومي!”
اتصل الجيران بالإسعاف، ونُقلت ليلى إلى المستشفى.
وفي تلك اللحظة، اتصل وصل بأبيه وهو يرتجف:
– “بابا… ماما طاحت… تعال بسرعة!”
كانت كلمات الطفل كالسهم في صدر سالم.
ترك كل شيء، وصعد على أول طائرة.
عودة القلب
عندما وصل سالم إلى المستشفى، ركض في الممرات حتى وصل إلى غرفة ليلى.
كانت موصولة بالأجهزة، وجهها شاحب لكنها واعية.
اقترب منها وهو يحاول أن يخفي دموعه:
– “ليش ما قلتي لي؟”
ردت بصوت ضعيف:
– “ما أبي أشغلك… كنت خايفة عليك… مو على نفسي.”
أمسك يدها بقوة:
– “لو الدنيا كلها توقف… ما يهم. بس أنتِ… أنتِ روحي يا ليلى.”
وبينما كان يتكلم، شعر أن وصل يضع يده فوق يدهما ويقول بصوت صغير:
– “بابا… ماما ما تموت، صح؟”
ضمّ سالم طفله وقال:
– “لا يا بطل… ماما قوية. أقوى منا كلنا.”
خرجت ليلى من المستشفى بعد أيام من المتابعة الدقيقة، وكان الأطباء مطمئنين إلى حالتها، مع توصيات واضحة بالراحة وتقليل الضغط النفسي.
عاد المنزل ليجمعهم الثلاثة، لكن شيئًا ما كان مختلفًا…
كان سالم ينظر إلى زوجته وابنه وكأنه يراهم للمرة الأولى بعد عمرٍ طويل.
في تلك الليلة، جلسوا جميعًا في غرفة المعيشة.
وصل يحتضن لعبته، وليلى تميل برأسها على كتف سالم، وصوت المطر بالخارج يطرق على النوافذ بهدوء.
قال سالم بصوت حاسم:
– “ليلى… ما في شي بالدنيا يستاهل أبعد عنكم مرة ثانية.”
رفعت ليلى رأسها إليه، وعينيها تحملان خوفًا وراحة في الوقت نفسه.
– “بس شغلك؟ مستقبلك؟”
ابتسم سالم ابتسامة مطمئنة، لكنه كان يخفي خلفها قرارًا صعبًا اتخذه بالفعل.
– “المستقبل الحقيقي… جنبي الآن.”
كانت ليلى تشعر أن شيئًا يتغير، لكن لم تتوقع حجم القرار.
قرار يعيد رسم الحياة
بعد أيام، اتخذ سالم الخطوة التي لم يكن أحد يتوقعها.
عاد إلى الشركة، ووقف أمام مديره قائلاً:
– “أنا ممتن للفرصة… بس ما أقدر أكمل بعيد عن عائلتي.”
تفاجأ المدير، فالمشروع كان كبيرًا، والمركز مهم.
– “تفكيرك جيد… لكن هل تدرك ما الذي تتخلى عنه؟”
أجاب سالم بثقة:
– “أتخلى عن وظيفة… بس أكسب حياة.”
وقّع الاستقالة، وشعر وكأنه يضع حجرًا كبيرًا عن كتفيه.
العودة إلى البيت
حين عاد إلى المنزل، أخبر ليلى بما فعله.
ارتجفت شفتاها وقالت:
– “سالم… ليش؟ كان ممكن نتحمل، كان ممكن أجي معاك بعد فترة…”
أمسك بيديها:
– “أنا ما أبي أتحملك. أبيك ترتاحين. أبي نكون كلنا مع بعض. هذي حياتنا، مو مشروع مؤقت.”
لم تستطع ليلى إخفاء دموعها.
لأول مرة شعرت أن الحب ليس مجرد كلمات، بل قرارات تُتخذ عند أصعب المنعطفات.
لحظة المصير
مرت أسابيع جميلة.
سالم بدأ يعمل على مشروع خاص من المنزل، وليلى عادت تدريجيًا لجامعتها، ووصل عاد ضاحكًا كما كان دائمًا.
حتى جاء ذلك اليوم…
اليوم الذي تلقى فيه سالم مكالمة غيرت مسار حياته المهنية بالكامل.
كان صوت أحد مديري الشركات الدولية الكبرى على الطرف الآخر، عرفه من خلال إنجازات سابقة:
– “مهندس سالم… بلغنا عن مشروع قدمته قبل سنوات. نحن مهتمون نتواصل معك لإدارة فرع جديد… والعمل سيكون هنا في نفس المدينة.”
لم يصدق سالم.
بعد أن ظن أنه خسر مستقبله المهني، فتح الله له بابًا أعظم مما توقع.
عندما أخبر ليلى، شهقت من الفرح:
– “سالم! سبحان الله… كأن الباب اللي سكّرته… انفتح من مكان ثاني أكبر.”
ضحك سالم وضمّها إليه:
– “أدري… يمكن لأن النية كانت صافية.”
كبر وصل… وكبر الحلم
بعد عام، أصبح سالم مديرًا لفرع الشركة الجديدة، وليلى أكملت الدكتوراه وأصبحت واحدة من الأصوات الأكاديمية المحترمة في مجالها.
ووصل… أصبح أكثر وعيًا بحكاية أهله، يسأل عن الكويت كما يسأل عن العراق، ويلون في دفاتره علمين متداخلين.
وذات ليلة، بينما كانوا يجلسون على الشرفة، سأل وصل سؤالًا لم يتوقعاه:
– “بابا… ماما… أنا من وين؟”
نظر الرجل والمرأة إلى بعضهما، ثم أجابه سالم وهو يمسح على شعره:
– “يا وصل… أنت من مكان أكبر من أي بلد… أنت من قلبين حبوا بعض رغم كل شي.”
وأضافت ليلى:
– “أنت من الكويت… ومن العراق… ومن كل مكان جمعنا إحنا الثلاثة.”
ابتسم الطفل وقال:
– “يعني أنا عندي وطنين؟”
– “لا يا حبيبي… عندك ثلاثة.”
قالها سالم وهو يضغط على يد ليلى:
– “الكويت… العراق… وبيتك.”

تعليقات
إرسال تعليق