صداقة تتجاوز الخرائط
لم تكن ليان تتوقع أن رسالة قصيرة في مجموعة للفنون الرقمية ستغيّر جزءاً من حياتها. كتبت يومها تسأل عن أدوات جديدة للرسم، ففاجأها ردّ طويل من فتاة اسمها ميرا، تعيش في بلد آخر يبعد عنها آلاف الأميال. بدأ الأمر بنصيحة بسيطة… ثم امتدّ إلى حوار، ثم إلى عادة يومية لا تنقطع.
كانتا مختلفتين كثيراً:
ليان تحب الهدوء والقراءة، بينما ميرا مليئة بالحيوية وتجرّب كل شيء جديد.
ليان تفكّر كثيراً قبل أن تتكلم، وميرا تتحدث بعفوية تسبقها مشاعرها.
ورغم ذلك، كان بينهما انسجام غريب، كأنّ كل واحدة منهما تكمل نقص الأخرى.
مع الأيام أصبحت رسائلهما مساحة آمنة تشاركان فيها تفاصيل يومهما، وأحلامهما الصغيرة، وحتى مخاوفهما العميقة. كتبت لها ميرا ذات ليلة:
"أحس بينّا طريق ما يرسمه إلا القلب، طريق ما يعرف حدود ولا مطارات."
مرت ميرا بظرف قاسٍ حين مرضت والدتها فجأة. اختفت يومين كاملين، وكانت ليان تحاول طمأنتها بكل الطرق. وفي مساء اليوم الثاني وصلت رسالة قصيرة:
"ليان… تعبت، وما في أحد أفهمه مثل ما أفهمك."
لم تحتج ليان كثيراً لتعرف ثقل الجملة. قضت معها الليل كله عبر المكالمات، تُخفّف عنها وتستمع لحديثها المتقطع، وتذكّرها بأن الصداقة الحقيقية تبقى، حتى لو تلاشت الأصوات خلف المسافات.
بعد أشهر، حصلت ليان على فرصة حضور ورشة فنية في بلد ميرا. كانت مترددة، لكن ميرا كانت تشجعها كل يوم:
"تعالي… مو بس للورشة. تعالي عشان نثبت إن صداقتنا أكبر من الخريطة."
وعندما التقيا أخيراً، لم يكن المشهد يشبه لقاء شخصين يلتقيان لأول مرة؛ كان أشبه بعناق مؤجّل لسنوات. جلستا في مقهى صغير بالقرب من البحر، والضحكة التي عبرت بينهما كانت كافية لتختفي كل المسافات التي عاشتا خلفها.
قالت ميرا وهي ترفع كوبها:
"أخيراً صار بينّا صفر كيلومتر!"
لتجيبها ليان بابتسامة دافئة:
"كنت تقولين دايم… إن الصداقة ما تعرف حدود. واليوم آمنت فيها."
عادت ليان إلى مدينتها بعد لقائها بميرا، لكنها لم تكن الفتاة نفسها. شيء ما في داخلها تبدّل؛ صار العالم أوسع، وصارت الصداقة التي بينهما أثبت من أي شيء عرفته سابقًا. ومع ذلك… كانت الحياة دائمًا تعرف كيف تختبر ما نحب.
بدأت السنة الدراسية الجديدة، وامتلأ يوم ليان بالمشاريع والمهام. أصبحت رسائلها أقل، ومكالماتها مع ميرا تتأخر لساعات طويلة. لم تكن تتعمّد ذلك، لكن الزمن كان يركض أسرع من قدرتها على اللحاق به.
وفي الجانب الآخر من الحدود، كانت ميرا تمرّ بتغيّرات كثيرة. حصلت على فرصة تدريب مهمة في شركة تصميم كبيرة. كانت سعيدة، لكنها خائفة… وكانت تتمنى لو أن ليان قريبة بما يكفي لترى الفرحة في عينيها.
في إحدى الليالي، وبعد أسبوع كامل لم يتحدثا فيه، وصلتها رسالة من ميرا:
"ليان… أحسّ إن الصداقة تغيّرت. مو كنتِ أول وحدة تعرف أخباري؟"
قرأت ليان الرسالة وارتجف قلبها. لم تكن تريد أن تخسر تلك الصداقة التي بنتها بصدق. أغلقت كتبها، واتصلت بها فورًا دون تفكير.
ظهر صوت ميرا متعبًا خلف الشاشة:
"أنا مو زعلانة… بس خايفة إن الحياة تأخذ كل وحدة في طريق."
ردّت ليان بصوت هادئ لكنه صادق:
"يمكن المسافة تغيّر ترتيب الوقت… بس ما تغيّر مكانك. إنتِ صديقتي حتى لو اختفى الكلام لفترة."
كان الحوار صادقًا لدرجة أنه أعاد بناء كل شيء بينهما. بكيتا قليلاً، ضحكتا كثيرًا، وتحدّثتا حتى نامت إحداهما على صوت الأخرى. وتعاهدتا ألا تسمحا للوقت أن يسرق ما بنته الأيام.
مرت أشهر بعد ذلك، وبدأت الصداقة تنضج، كأنها شجرة أصبحت جذورها أعمق. صارتا تخططان أكثر، ويتقابلان مرة كل عام مهما كانت الظروف.
وفي يوم من الأيام، أرسلت ليان رسالة قصيرة لميرا:
"عندي مفاجأة… احزري وين أنا؟"
لم تمضِ دقيقة حتى وصل الاتصال. كانت ميرا تصرخ بفرح حقيقي:
"لااا! إنتِ هنا؟ بمدينتي؟!"
ضحكت ليان:
"قلت أجي بدون ما أخبرك… لأن الصداقة اللي تتخطى الحدود، تستحق خطوات مفاجِئة."
ركضتا نحو بعضهما في المطار، وعندما تعانقتا، شعرتا أن المسافات التي كانت بينهما طوال السنين تتلاشى دفعة واحدة… وكأن العالم كله صار مدينة واحدة تسكنانها معًا.
كانت تلك اللحظة بداية مرحلة جديدة… مرحلة صداقة أكثر قوة، وأعمق من أي خيال.
بعد اللقاء الأخير الذي جمعهما، صار وجود كل واحدة في حياة الأخرى أكثر ثباتًا من أي وقت سابق. لكن الحياة، كعادتها، لم تترك الأمور هادئة طويلًا… فقد بدأت تختبر صداقتهما بشكل أعمق، لتكشف كم يمكن للصديقة أن تكون “عائلة” دون أن تربطهما دماء.
1. حين انهارت ليان… كانت ميرا أول يد تمتد
واجهت ليان في تلك الفترة ضغوطًا دراسية شديدة. مشروع تخرجها تعثّر، والأستاذ المسؤول كان صارمًا، وزميلاتها لم يكنّ متعاونات. بدأت تشعر بالعجز، وأغلقت على نفسها غرفتها لأيام.
لاحظت ميرا اختفاءها. حاولت الاتصال بها كثيرًا، حتى ردّت ليان أخيرًا بصوت متعب. قالت لها بصوت مكسور:
"ميرا… ما أعرف أكمل. أحسّني ضايعة."
لم تنتظر ميرا كثيرًا. رتّبت وقتها، وخصصت لها ثلاثة أيام كاملة تعمل فيها مع ليان عبر مكالمة الفيديو. ساعدتها في ترتيب أفكار المشروع، صنعت لها تصميمات بسيطة تحتاجها، وراجعته معها فقرة فقرة.
وفي الليلة الأخيرة، قبل التسليم بساعات، قالت ميرا:
"أنا معك… مو بس كصديقة دراسة. أنا معك عشان ما أسمح لك تنسين قديشك قوية."
بكت ليان تلك الليلة، ليس من الضغط… بل من الامتنان.
نجحت في مشروعها بدرجة ممتازة، وكانت أول مكالمة تجريها هي إلى ميرا:
"هذي الدرجة… نصّها لك."
2. وميرا أيضًا… احتاجت ليان أكثر مما توقّعت
بعد أشهر، دخلت ميرا مرحلة صعبة. بدأ تدريبها في الشركة يضغط عليها، وقُدّمت لها مهمة كبيرة تتجاوز خبرتها. كانت تخشى الفشل، وبدأت تشكّ في نفسها.
في ذلك الوقت، كانت ليان أكثر انشغالاً، لكنها شعرت بأن ميرا ليست بخير. أرسلت لها رسالة بسيطة:
"تكلمينيني؟ قلبي مو مرتاح."
لم تتردد ميرا. أخبرتها بكل شيء، وقالت بخوف:
"أحسّهم راح يكتشفون إني مو قدّ الشغلة."
ابتسمت ليان رغم المسافة:
"ميرا… انتي مو بس قدّها. إنتي تخلين المستحيل سهل."
ثم أجرت معها جلسة تدريب كاملة:
– ساعدتها في ترتيب العرض.
– كتبت لها نقاط القوة التي قد تغفلها.
– وذكّرتها بقدرتها على النجاح.
وفي يوم التقديم، أرسلت ليان أذكى رسالة:
"لو تقدرين ترسمين أحلام الناس… تقدرين تقدّمين عرض قدّ العالم."
ابتسمت ميرا ودخلت بثقة. وبعد ساعات، أرسلت الخبر:
"ليان… قبلوني رسميًا! "
3. دعم من نوع آخر… حين احتاجتا بعض بلا كلمات
كان هناك نوع آخر من المساندة بينهما… لا يحتاج شرحًا.
أحيانًا تتصلان وتبقيان صامتتين، تعمل كل واحدة على جهازها، فقط لأن حضور الأخرى يجعل القلب هادئًا.
أحيانًا ترسل ميرا رسمة صغيرة لتُضحك ليان.
وأحيانًا ترسل ليان رسالة قصيرة جدًا:
"اليومك ثقيل؟ أنا معك."
مرت شهور هادئة في حياة ليان وميرا، قبل أن تأتي العاصفة التي لم يتوقعها أحد.
كانت ميرا تستعد لافتتاح أول معرض فني صغير لها، حلم العمر الذي كانت تخبئه منذ كانت طفلة. كانت تعمل بلا توقف، تسهر، ترسم، تجرّب، وتعيد.
ولأنها كانت تتحمس أكثر مما تحتمل، بدأت ترهق نفسها دون أن تشعر.
في الليلة التي سبقت افتتاح معرضها، أرسلت لمسة صوتية إلى ليان بصوت متعب:
"ليان… أحس في صدري شيء غريب. يمكن إجهاد، ما أدري…"
لم تطمئن ليان. شعرت بأن شيئاً خاطئاً يحدث، فحاولت الاتصال بها، لكن ميرا لم ترد.
سقوط غير متوقع
في صباح اليوم التالي، وصل لليان خبر من أحد أصدقاء ميرا:
"ميرا نُقلت إلى المستشفى… فقدت وعيها أمس."
تجمد قلب ليان. لم تفكر، لم تتردد. حجزت أقرب رحلة، جمعت أغراضها، وركضت نحو المطار.
كانت دموعها لا تتوقف. كانت تخشى أن تصل متأخرة، أن تفقد صديقتها، أن يسقط العالم من تحت قدميها.
في المستشفى
فتحت باب غرفة ميرا بيد مرتجفة.
كانت ميرا مستلقية على السرير، لونها شاحب، وتوصيلات صغيرة تتصل بجسدها. لكنها كانت مستيقظة… وعيناها تتحركان ببطء.
عندما رأت ليان، ابتسمت ابتسامة متعبة، وقالت بصوت خافت:
"كنت أعرف إنك بتجين…"
جلست ليان قربها، أمسكت يدها بقوة، وقالت وهي تحبس الدموع:
"تخوفيني كذا؟ ما يصير. إنتِ أقوى من كل هذا."
ضحكت ميرا بخفة:
"شكلي بالغيت… بس صدقيني كنت أدري إن أول وجه بشوفه هو وجهك."
علمت ليان من الطبيب أن ما حدث كان إرهاقًا شديدًا، وانخفاضًا في الضغط والسكر بسبب العمل المتواصل وقلة النوم.
الصديقة التي أصبحت سندًا حقيقيًا
لم تترك ليان ميرا لحظة.
أصبحت تساعدها في كل شيء:
– رتبت لها المعرض بالكامل، لوحاتها، الإضاءة، وحتى استقبال الناس.
– كتبت كلمة الافتتاح بدلًا عنها.
– ووقفت عند المدخل تقول لكل زائر: "هذي أعمال ميرا… قلبها مرسوم هنا."
وفي مساء الافتتاح، وبعد أن سمحوا لميرا بالخروج لساعات محدودة، دخلت القاعة متكئة على كتف ليان.
وقف الجميع يصفّقون لها…
لكن ميرا لم تنظر إليهم أولاً، بل التفتت نحو ليان وقالت:
"لو ما كنتِ هنا… كان حلمي هذا ما صار."
أجابت ليان بابتسامة دافئة:
"وإنتِ لو ما كنتِ بحياتي… كان قلبي ما عرف معنى الصداقة الحقيقية."
انتصار على العاصفة
عادتا إلى المنزل بعد انتهاء المعرض، وجلستا على الشرفة بينما تهب نسمة ليلية لطيفة.
رفعت ميرا رأسها نحو السماء وقالت:
"تدرين يا ليان؟ الحين بس فهمت إن الرحم مو الشي الوحيد اللي يصنع عائلة… القلب بعد يصنعها."
وضعت ليان رأسها على كتفها وأجابت بصوت مطمئن:
"وإحنا… صنعنا عائلة من صداقة."
مرت سنوات بعد تلك الحادثة.
كبرت ليان وميرا، لكن صداقتهما لم تكبر… بل ترسخت، مثل جذور شجرة عاشت كل الفصول وبقيت واقفة.
كانت حياتهما تتغير:
ليان بدأت عملًا جديدًا، وميرا توسع معرضها، وكل واحدة منهما دخلت في التزامات جديدة.
ومع ذلك، كان هناك يوم واحد في السنة لا يمسّه الوقت…
يوم تحتفلان فيه بذكرى أول لقاء جمعهما.
في إحدى تلك السنوات، اجتمعتا على شاطئ صغير بعيد عن المدن.
جلستا إلى جانب بعضهما تصغيان لصوت الأمواج.
قالت ميرا بصوت خافت:
"أحيانًا أخاف… الزمن ياخذ كل شي. ياخذ الناس، ياخذ الفرص… حتى ياخذ أحلامنا."
ردّت ليان وهي تنظر إلى البحر:
"الزمن ياخذ… بس ما يقدر يمدّ يده على شي نختاره نحنا."
سكتت قليلاً، ثم التفتت إلى ميرا وأكملت:
"صداقتنا اخترناها… مو ضربة حظ. ولهذا بتبقى، حتى لو اختلفت الطرق."
نظرت إليها ميرا بعينين دامعتين، وقالت:
"إنتِ ما كنتِ مجرد صديقة… كنتِ المرة الأولى في حياتي اللي أحس فيها إن أحد يفهم ثقلي قبل كلماتي."
ابتسمت ليان ومدّت يدها تمسك يد ميرا:
"وإنتِ أول شخص علّمني إن المسافة ما تكسر شي… إلا لو إحنا اللي خليناها تكسر."
ارتفعت موجة كبيرة، ومرّ هواء بارد بينهما، كأنه يحمل شيئًا من ذكرياتهما.
أغمضت ميرا عينيها وقالت:
"لو بعد سنين، ضاعت الطرق… أو اختفت الرسائل… أو حتى ما قدرنا نشوف بعض…"
ثم فتحت عينيها وابتسمت:
"يكفيني أعرف إن مكانك بقلبي ما حمله أحد غيرك."
عانقتها ليان بقوة، كأنها تحفظ اللحظة داخلها إلى الأبد.
وحين بدأت الشمس تغيب، قالت ليان آخر جملة لم تنسَها ميرا طوال حياتها:
"ما نحتاج نهاية سعيدة… لأن صداقتنا أصلاً كانت السعادة اللي ما لها نهاية."
وغاب الشاطئ خلف الأفق، لكن صوته بقي شاهدًا على حكاية صداقة…
لم تُكتب بالحبر، بل كُتبت بقدرة قلبين على أن يكونا وطنًا لبعضهما.
اطرة — لأن القلوب تعرف طريقها
هناك صداقات
لا تشبه المرور العابر في حياة أحد،
بل تشبه بوابة ضوء
تفتح في اللحظة التي نظن فيها
أن العالم صار أضيق من أن يحتملنا.
أحيانًا
لا نختار من يمسك أيدينا،
لكننا نعرفه
حين تهدأ أرواحنا فجأة بقربه.
الصديق الحقيقي…
ليس من يملأ وقتك،
بل من يملأ فراغ روحك
بطمأنينة لا يستطيع أحد أن يمنحك إياها.
هو ذاك الذي
تسقط أمامه كل المسافات،
كل الخوف،
كل الكلمات الثقيلة،
وتبقى أنت…
بوجهك البسيط
وقلبك المتعب
وابتسامتك التي ما زالت تتعلم كيف تعود.
الصداقة الحقيقية
لا تُقاس بالسنوات،
بل بلحظاتٍ
قال فيها أحدهم:
"أنا معك… حتى لو كان الطريق مظلم."
وتلك اللحظة
تصنع عمرًا كاملاً.

تعليقات
إرسال تعليق