القائمة الرئيسية

الصفحات

عندما التقت الرمال بالثلج قصة حب سعودي لفتاة سورية تبيع المعجنات



 عندما التقت الرمال بالثلج

في أحد أيام الربيع المعتدلة في مدينة الرياض، خرج سالم مسرعًا إلى عمله بعد أن تأخر كعادته. كان يعمل في شركة مقاولات كمهندس ميداني، ولم يكن يومه مختلفًا عن سابقيه إلا بتلك اللحظة التي بدّلت مسار حياته تمامًا.

عند إشارات المرور القريبة من مقر الشركة، توقفت سيارته أمام الضوء الأحمر، وهناك رأى فتاة سورية تمشي على الرصيف المقابل، تحمل في يدها أكياسًا بيضاء صغيرة، بينما تهب نسمة خفيفة تحرك أطراف حجابها الوردي. لم يكن في المشهد ما يلفت النظر سوى هدوء ملامحها ووقارها الغريب.

كانت تسير بخطوات ثابتة، وكأنها لا تنتمي إلى صخب المدينة. شعر سالم بشيء غير مألوف، إحساس مباغت جعله يطيل النظر حتى تحركت السيارات من حوله وضجّت الأبواق.

في تلك اللحظة، لم يدرك سالم أن قلبه — الذي طالما انشغل بالأرقام والمخططات — بدأ يرسم مشروعًا جديدًا، مشروع حب.

في المساء، عاد سالم إلى بيته، لكن وجهها لم يفارق ذهنه. ظل يراها في كل انعكاس على زجاج، في كل ابتسامة عابرة، حتى قرر أن يعود في اليوم التالي إلى نفس المكان في التوقيت ذاته، وكأن القدر قد وضع له موعدًا غير مكتوب.

وفعلًا، في اليوم التالي، وجدها. كانت تجلس على مقعد خشبي قرب أحد المحال، تبيع معجنات شامية بسيطة أعدّتها بنفسها. اقترب منها بخطوات مترددة، يختبئ خلف ابتسامة خفيفة.

قال لها بلطف:

– السلام عليكم، هذي المعجنات شكلها طيب، من صنع يدك؟

ابتسمت بخجل وقالت:

– وعليكم السلام، نعم، أنا أعملها بنفسي، إذا تحب تجرّب؟

لم يكن جائعًا، لكنه اشترى ثلاث قطع. تذوقها، وكانت لذيذة، لكن ما أذهله أكثر هو الحنان في نبرة صوتها، شيء دافئ وسط ازدحام الحياة.

سألها بعدها باهتمام:

– واضح إنك شاطرة بالطبخ، من زمان تبيعين هنا؟

– تقريبًا من شهرين، أنا وأمي نعيش قريب من هنا، نحاول نبدأ بشي بسيط... تعرف الغربة ما تسهل الأمور.

هز رأسه بتفهّم، وقال:

– الله يوفقكم، الغربة صعبة بس أهل السعودية ما يقصرون.

ضحكت وقالت:

– والله فعلاً، الناس هنا طيبين أكثر مما توقعت.

غادر سالم بعدها وهو يحمل بين يديه كيسًا صغيرًا من المعجنات، لكنه في داخله حمل شيئًا أكبر بكثير: رغبة في أن يراها مجددًا.

مرت الأيام، وصارت زياراته شبه يومية، يشتري منها، ويتحدث معها لبضع دقائق، حتى حفظت صوته وضحكته، وصار هو زبونها المفضل. كانت تُدعى لين، فتاة سورية من دمشق، جاءت مع والدتها بعد أن فقدت والدها في الحرب.

تحدثت عن دمشق بحنين، وعن بيتهم القديم، وعن زهر الياسمين الذي كانت تزرعه أمها في الشرفة. كان كلامها يملأ قلب سالم دفئًا لا يعرف سببه.

ومع الوقت، صار يشعر أنه مسؤول عنها دون أن يقول شيئًا. أصبح يمر أحيانًا فقط ليطمئن، حتى لو لم يشترِ شيئًا.

في أحد الأيام، تأخر سالم عن زيارته المعتادة، فقد اضطر للسفر في مهمة عمل إلى الدمام لعدة أيام. لكن الغريب أنه كان يشعر بالحنين الشديد وكأنه ترك وراءه وطنًا صغيرًا. عاد بعد أسبوع، فوجد مكانها خاليًا. شعر بانقباض غريب، وسأل البائعين حوله، حتى قال له أحدهم إنها توقفت عن القدوم منذ ثلاثة أيام.

انتابه قلق لم يعرف له مثيل. عاد للسيارة يبحث في الشوارع المجاورة، حتى لمحها في آخر الشارع، تجلس قرب أمها أمام شقة صغيرة، ومعها صينية من المعجنات لم تُبع بعد. اقترب بسرعة، فنهضت مبتسمة عندما رأته.

– ما شاء الله، غبت كثير! حسبت إنك نسيتنا.

قالتها بابتسامة تعبق بعفوية دمشقية.

ضحك وقال:

– أبدًا ما نسيّت، بس السفر غصب. كيفك أنتي؟ وليه ما رجعتي مكانك القديم؟

تنهدت وقالت:

– البلدية منعت البيع في ذاك الشارع، قالوا لازم تصريح، فصرنا نبيع من هنا، والرزق على الله.

شعر سالم بحرقة في صدره، كان يريد أن يفعل شيئًا، أي شيء، ليساعدها. فكر أن يجد لها عملاً أفضل، أو يفتح لها مشروعًا صغيرًا، لكن كيف؟ هو لم يعترف حتى الآن بما يشعر به، ولم يعرف إن كانت تشعر مثله.

بعد أيام، عاد سالم مجددًا، هذه المرة ومعه صندوق صغير. قدمه لها وقال:

– هدية بسيطة، تساعدك في شغلك.

فتحت الصندوق فوجدت بداخله خلاطًا كهربائيًا جديدًا ومستلزمات للخبز. نظرت إليه بدهشة، وقالت:

– ما كان له داعي، والله العظيم!

فأجاب بابتسامة:

– إذا ساعدك هذا في شغلك، فاعتبريني شاركت في المعجنات شوي.

ضحكت بخجل، لكنها لم تنسَ تلك اللحظة أبدًا.

مرّت الشهور، وصارت العلاقة بينهما أعمق مما توقعا. كانت أم لين تعرف عنه، وتبتسم كلما سمعت ابنها — كما بدأت تسميه — يطرق الباب ليساعدهما في بعض الأمور. كان سالم يشعر أنه وجد في هذا البيت السوري الدافئ شيئًا يشبه العائلة التي افتقدها.

وذات مساء، جلس مع والدته يحكي لها عن فتاة سورية طيبة القلب، كأنها من نور. نظرت إليه الأم بابتسامة وقالت:

– شكلك ناوي تخطب يا ولدي؟

احمر وجهه وقال:

– يمكن... إذا وافقت هي.

ردت الأم بهدوء:

– إذا هي بنت طيبة، ما في مانع، الأصل الطيب ما يعرف حدود.

وفي الأسبوع التالي، حمل سالم قلبه بين يديه وذهب إلى بيتها. جلس أمام أمها بخجل، وقال بصدق:

– أنا أجي اليوم أطلب يد بنتكم لين، على سنة الله ورسوله.

ساد صمت جميل، كأن الزمن توقف احترامًا لتلك اللحظة. نظرت الأم إلى ابنتها، فابتسمت لين وهي تخفض بصرها، والحياء يرسم على وجهها قصة لا تحتاج إلى كلمات.

قالت الأم:

– يا ابني، إحنا ما لنا غيرها، بس اللي يشوفها بعينه يعرف إنها بنت طيبة وتستاهل الخير. إذا نيتك صادقة، فالله يكتب اللي فيه بركة.

أشرق وجه سالم، وشعر أنه نال أغلى نعمة في حياته.

تم الزواج بعد أشهر بسيطة، في حفل صغير جمع الأصدقاء وبعض الأقارب. كان بسيطًا، لكنه مفعم بالفرح.

في تلك الليلة، قال سالم وهو ينظر إليها:

– تعرفين يا لين، كنت أقول دايم إن الرياض ما تزهر، بس يوم عرفتك حسّيت إنها أزهرت في قلبي.


ضحكت لين وقالت:

– يمكن لأنك شفتها بعيون تحب، مو بعيون عابر طريق.

أمسك يدها وقال:

– لا، لأنك كنت الزهرة اللي أزهرت فيها المدينة، في قلب فقير زيي.

وهكذا، التقت الرمال بالثلج، وذابت الحدود بين وطنين.

في بيت صغير يجمع رائحة القهوة السعودية مع زهر الياسمين الشامي، بدأ الاثنان فصلاً جديدًا من حياةٍ علّمتهما أن الحب لا يعرف 

لهجة، ولا جنسية، بل يعرف فقط الصدق حين يلتقي القلب بالقلب.

مرت خمس سنوات منذ أن جمع الله بين قلبَي سالم ولين.

البيت الذي كان صغيرًا في بدايته، أصبح اليوم يعج بالحياة والضحكات.

جدرانه تزيّنت بصور الأطفال ورسوماتهم، وبصوت ضحكاتهم التي تملأ الأرجاء كالعصافير في صباحٍ ربيعي.

أنجبا طفلين: رُبى ذات الخمسة أعوام، تشبه أمها في عينيها الواسعتين ولهجتها التي تمزج بين اللين الشامي والدفء النجدي، وسلمان الصغير ذو العامين الذي لا يكفّ عن الركض في كل زاوية من البيت.

كانت لين تقول دائمًا وهي تضحك:

– هالبيت ما عاد يعرف السكون، حتى الجدران صارت تتكلم!

وسالم يجيبها مبتسمًا:

– دام أصواتكم فيه، ما أبيه يسكت أبدًا.

استقرّت حياتهما في حيّ هادئ شمال الرياض. افتتحت لين أخيرًا مشروعها الصغير الذي طالما حلمت به: مخبز "ياسمين الشام"، بدعم من سالم وتشجيعه المستمر.

صار المخبز مقصدًا للناس من كل مكان، ليس فقط لطعم المعجنات الفريد، بل لروح المحبة التي تبثها صاحبة المكان.

كان سالم كل صباح يوصلها بسيارته إلى المخبز، ثم يأخذ رُبى إلى الروضة، قبل أن يتجه إلى عمله.

وفي المساء، يعود الثلاثة معًا إلى البيت، محمّلين برائحة الخبز الساخن وضحكات الأطفال.

وفي أحد الأيام، بينما كانت لين ترتّب الرفوف في المخبز، دخلت امرأة مسنة وقالت لها:

– بنتي، من أول مرة ذقت معجناتك وأنا أرجع كل أسبوع، فيها نكهة غريبة... نكهة حب يمكن؟

ضحكت لين بخجل وقالت:

– يمكن لأن اللي ساعدني في البداية كان يحبني بصدق.

كانت تقصد سالم، الذي وقف يومًا في الشارع نفسه يشتري منها بثمن بسيط، وهو لا يعلم أن القدر يخبئ له حياة كاملة معها.

ذات مساء، عاد سالم من عمله متعبًا. دخل البيت فوجد زوجته جالسة مع الأطفال، تحكي لهم حكاية من دمشق، عن بيتٍ فيه شجرة ياسمين تمتد أغصانها حتى الشرفة.

كان الأطفال يستمعون بعيون متسعة، والضوء الذهبي للغروب يتسلل من النافذة كأنه يشاركهم الحكاية.

اقترب سالم وجلس بجانبهم، فابتسمت لين وقالت:

– جالسين نحكي عن الشام... عن طفولتي.

– وأنا جالس أعيش طفولتي من جديد معكم، ردّ سالم وهو يقبّل رأسها.

قالت رُبى بصوتها الصغير:

– بابا، متى نروح نشوف الشام؟

نظر سالم إلى لين ثم قال:

– يوم تهدأ الدنيا هناك، نروح نزور بلد أمك ونشم ريحة الياسمين الحقيقي.

ضحكت لين وقالت:

– وإلين ما تهدأ، بنزرع ياسمين هنا في حوش بيتنا.

وبالفعل، في اليوم التالي زرعا معًا شتلة ياسمين في فناء البيت. كانت رمزية بسيطة، لكنها حملت معنى عميقًا — امتزاج الوطنين في جذور واحدة.

كبر مشروع لين، وصار لديها موظفات يساعدنها، كثيرات منهن من الجاليات العربية. كانت تعامل الجميع كأخوات، وتقول لهن دائمًا:

– الرزق مو بس بالفلوس، الرزق بالقلوب اللي نحافظ عليها.

أما سالم، فترقّى في عمله وأصبح مديرًا للمشاريع الهندسية في الشركة نفسها التي بدأ منها قبل سنوات. لكنه كان يقول دائمًا:

– أعظم إنجازاتي مو ناطحات سحاب، أعظمها إن الله رزقني بيت مليان حب.

وفي إحدى الليالي، بينما جلس الزوجان في الشرفة بعد أن نام الأطفال، قال سالم وهو ينظر إلى السماء:

– تتذكرين أول مرة شفتك؟ كنتِ تمشين في الشارع ومعك أكياس معجنات. ما كنت أدري إن كل حياتي تمشي هناك بعدك.

ابتسمت لين بهدوء وقالت:

– وأنا ما كنت أتخيل إن الرياض، المدينة اللي كنت أعتبرها غريبة، بتصير بيتي الحقيقي.

مدّ يده نحوها وقال:

– يمكن لأننا سويناها بيت سوا... زرعناها حب.

في تلك اللحظة، هبّت نسمة ليلية باردة، فانتشرت رائحة الياسمين المزروع في الحوش، ولامست أرواحهما بلطف.

قال سالم:

– حتى المدينة صارت تزهر، شوفتي؟

ابتسمت لين وهمست:

– يوم أزهرت المدينة في قلب الفقير... تذكّر؟

ضحك وقال:

– إي، بس اليوم أزهرت مرتين: مرة في قلبي، ومرة في بيتنا.

مرّت السنوات، وكبر الأطفال، وصارت رُبى تحب مساعدة أمها في المخبز، بينما بدأ سلمان يتعلم من أبيه كيف يبني مجسمات صغيرة للمباني.

وفي كل يوم جمعة، يجتمع الأربعة حول مائدة الإفطار، حيث تصنع لين المناقيش بيديها، ويصبّ سالم الشاي بنفسه، ويضحك الأطفال دون توقف.

كان هذا البيت مثالًا بسيطًا لكنه مليء بالمعاني — بيتٌ جمع الشام والرياض في قلبٍ واحد، جمع الحنين بالأمان، والياسمين بالنخيل.

وفي يومٍ من الأيام، بينما كانت رُبى تكتب في دفترها واجب المدرسة، سألت أمها:

– ماما، المعلمة قالت نكتب عن شي نحبه أكثر شي في الدنيا، أكتب عن وشو؟

ابتسمت لين وقالت:

– اكتبي عن بيتنا، لأن البيت هو المكان اللي يجتمع فيه كل الحب.

رفعت رُبى رأسها وقالت:

– بس يا ماما، البيت ما كان بيصير كذا حلو لو ما أنتو تحبون بعض.

ضحكت لين بحرارة وقالت:

– يا بنتي، يمكن أنتي أصدق واحدة قالت الحقيقة.

وفي نهاية كل مساء، عندما ينام الأطفال ويعمّ السكون، تجلس لين بجانب سالم، تضع رأسها على كتفه، وتنظر إلى شتلة الياسمين التي كبرت معهم.

كانت تهمس له دائمًا بنفس العبارة:

– سبحان الله يا سالم، ما كنت أتخيل إن الفقر اللي جابني لهالمدينة بيجيب لي كل هالغنى.

فيرد بابتسامة:

– لأن الغنى الحقيقي مو في الجيب، الغنى في القلب... وإنتِ أغنى ما رزقني ربي.

وهكذا، ظلّت المدينة تُزهر كل يوم في بيتٍ صغير، لأن الحب حين يكون صادقًا، يحوّل الغربة وطنًا، والفقر غنى، والمدينة القاحلة حديقةً من ياسمين.

مرت عشرة أعوام منذ أن زرعا شتلة الياسمين في فناء بيتهما، وكبرت الشجرة كما كبر حبّهما.

صار البيت مفعمًا بالحياة أكثر من أي وقت مضى، فـرُبى الآن في الخامسة عشرة، فتاة ذكية، تحمل من أمها اللين ومن أبيها الحزم، وسلمان في الثانية عشرة، لا يزال يميل إلى المزاح أكثر من الجدّ، لكنه يملك قلبًا طيبًا كقلب أبيه.

كانت الحياة تسير بهدوء ودفء، حتى جاء اليوم الذي قلب الطمأنينة إلى خوف، والياسمين إلى قلقٍ ثقيل.

في صباح أحد الأيام، خرج سالم إلى عمله كعادته، لكنه عاد بعد ساعات وهو متعب، وجهه شاحب وصوته ضعيف. جلست لين إلى جانبه تقلق:

– سالم، شكلك مو بخير، وش فيك؟

ابتسم ابتسامة متعبة وقال:

– يمكن إجهاد بس، ما فيني إلا العافية.

لكن جسده لم صدق كلامه. في اليوم التالي، سقط مغشيًا عليه في المكتب. نقلوه بسرعة إلى المستشفى، وهناك بدأت رحلة طويلة من الفحوصات والتحاليل، انتهت بكلمات باردة خرجت من فم الطبيب:

– عنده ضعف شديد في عضلة القلب، الحالة حرجة جدًا، ونسبة الشفاء محدودة.

تجمّدت لين في مكانها، شعرت أن قلبها هو من توقف لا قلبه. نظرت إلى الطبيب بعينين دامعتين وقالت:

– يعني ما في أمل؟

قال الطبيب بأسف:

– الأمل في يد الله، لكن من الناحية الطبية... الأمور صعبة.

خرجت من الغرفة وهي تحبس دموعها، تتذكر الأيام التي كان يضحك فيها، يحمل أطفالهم، يساعدها في المخبز، ويزرع معها الأمل في كل زاوية.

كيف يمكن أن يتوقف هذا النور فجأة؟

مرت الأسابيع، وسالم يرقد في المستشفى متصلًا بأجهزة التنفس، صامتًا إلا من نبضات بطيئة تظهر على الشاشة.

كانت لين تزوره كل يوم، تجلس بجانبه، تمسك يده وتقرأ له سورة يس، وتهمس في أذنه:

– لا تتركني يا سالم، تذكر شجرة الياسمين اللي زرعناها؟ لسه ما كملت عمرها... ما يجوز تتركها قبلي.

كانت الممرضات يرينها يوميًا تجلس الساعات الطوال دون تعب، تنظف غرفته بنفسها، وتبدّل الأزهار في المزهرية الصغيرة بجانبه.

إحدى الممرضات قالت لها مرة:

– أختي لين، كثير نسمع عن الوفاء، بس قليل نشوفه مثل كذا.


ابتسمت بعينين تلمعان بالدموع وقالت:

– الوفاء مو فضل، الوفاء حياة ثانية بعد الحب.

في المنزل، كانت تحاول أن تُخفي حزنها عن أطفالها، رغم أن رُبى بدأت تفهم أكثر مما تقول.

سألتها ابنتها ذات مساء:

– ماما، ليه بابا ما يرجع البيت؟ كل يوم تقولين قريب.

ابتسمت لين وهي تحاول أن تبدو قوية:

– لأن الله لسه ما كتب له يرجع، بس بابا بيسمعنا من هناك، وبيفرح إذا صلينا له ودعينا له.

كل ليلة، كانت لين تجلس على سجادة صلاتها، تبكي بحرقة، وتدعو الله أن يعيد إليها شريك حياتها. كانت تكتب في دفترها الصغير آيات الأمل وتضعها بجانب سريره، كأنها ترسل له رسائل إلى روحه.

وفي أحد الأيام، بعد مرور أربعة أشهر من دخوله المستشفى، دخل الطبيب إلى الغرفة بوجهٍ متجهم، وقال لها:

– حالته لم تتحسن، وربما لن يصمد طويلاً... أنصحك أن تكوني مستعدة.

كلماته كانت كالسيف، لكنها لم تنهار.

قالت بهدوء ثابت:

– الدكتور، أنت تقول ما عندنا أمل... بس أنا عندي ربّي، وهو ما يخذل أحد.


في تلك الليلة، جلست بجانبه كعادتها، وبدأت تتحدث إليه كأنه يسمعها بوعي:

– سالم، تذكر أول يوم شفتك؟ كنت واقف عند الإشارة وتطالعني وأنا أحمل المعجنات... كنت تقول دايم إن المدينة أزهرت بقلبي.

– الحين، أنا بقول لك: حتى لو غابت شمسك شوي، المدينة ما تطفي. لأني أنا... شمسك الثانية.

ثم وضعت رأسها على يده، وغفت وهي تبكي.

في فجر اليوم التالي، استيقظت على صوت أجهزة المراقبة تصدر صفيرًا مختلفًا، رفعت رأسها مذعورة، لتجد سالم يحرك أصابعه ببطء، وشفتيه تتمتمان بكلمات غير واضحة.

صرخت من الفرح، واستدعت الأطباء.

جاؤوا بسرعة، وأجروا الفحوصات، فدهش الطبيب نفسه:

– الضغط يتحسن... التنفس يعود طبيعي!

لم يجدوا تفسيرًا طبيًا لما حدث، لكن لين كانت تعرف.

قالت وهي تمسح دموعها:

– ما يحتاج تفسير، الله إذا قال “كن” يكون.

بعد أسابيع من العلاج الطبيعي، عاد سالم إلى بيته، نحيفًا وضعيفًا، لكنه حيّ.

كان أول ما رآه حين دخل المنزل هو شجرة الياسمين التي زرعاها معًا منذ سنين، وقد امتلأت بالأزهار البيضاء.

اقترب منها، وضع يده عليها، وقال بصوت متعب لكنه مطمئن:

– حتى الياسمين صبر... مثلك يا لين.

ابتسمت وهي تمسك ذراعه:

– لا، هو صبر لأنك زرعته بحب، وأنا صبرت لأني كنت مؤمنة إن الله بيجمعنا من جديد.

مرت الشهور، وتعافى سالم تمامًا. عاد إلى عمله تدريجيًا، وعاد ضحكه يملأ البيت كما كان.

في إحدى الأمسيات، كان جالسًا في الحوش، ينظر إلى السماء، وبجانبه لين. قال لها:

– كنت دايم أقول إنك أنقذتيني يوم شفتك أول مرة... بس الحين أدري إنك أنقذتيني مرتين.

– متى الأولى ومتى الثانية؟

– الأولى لما علمتيني معنى الحياة، والثانية لما علمتيني معنى الصبر.


نظرت إليه بابتسامة تغمرها الدموع وقالت:

– والاثنتين علمتني إن الحب الصادق ما يموت، حتى لو توقف القلب، الله يقدر يعيده ينبض.

وفي تلك الليلة، كانت رائحة الياسمين تعبق في الجو.

رفعت لين رأسها نحو السماء وهمست:

– يا رب، شكراً لأنك أزهرت المدينة في قلبي مرة ثانية.

فردّ سالم بصوتٍ خافت لكنه مليء بالسكينة:

– وإنتِ السبب يا لين... أنتِ الربيع اللي ما خلاني أموت في صحراء الحياة.

ثم أمسك يدها وقال:

– دامك معي، ما في مرض، ولا ليل، ولا خوف.

وهكذا، عادت الشمس إلى بيتهم من جديد.

لم يكن الشفاء معجزة طبية فقط، بل كان ثمرة حبٍّ صادقٍ قاوم الموت بالإيمان، والوجع بالوفاء، والليل بالأمل.

وفي فناء البيت، كانت شجرة الياسمين تتفتح كأنها تشاركهم الفرح، تهمس بلغة لا يسمعها إلا من مرّ بالتجربة:

"الحب لا يشفى... بل يشفي."

تعليقات